التنقيب عن ذات الإنسان، عن نفسه، عن أدواره وأطواره، كان ولا يزال الشغل الشاغل للمهتمين قديماً وحديثاً، حتى اعتُبِر اكتشاف الإنسان لنفسِه هو الاكتشاف الأعظم في تاريخه، واعتبَر الفيلسوف بروتاغوراس - زعيم الفكر السوفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد - أن الإنسان هو مقياس كل شيء!

ولم تكن الشريعة الإسلامية لتقف من البحث في الذات غير الموقف المنطقي المتمثل في التنقيب والدراسة ومحاولة الفهم، فقد بيّن القرآن الكريم الافتقار البشري للإحاطة بالنفس حين قال: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، ثم حثَّ على البحث في مكنونات الذات والتنقيب في أسرارها، فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].

 

أحد التحديات التي واجهت النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته هو إثبات أن الإنسان ليس كتلة واحدة تعيش معاً وتموت معاً، وإنما هو مجموعة من المكوِّنات، يموت بعضها، ويبقى بعضها، ويتعطل بعضها، ثم يعاد بناؤه خلقاً جديداً.

 

(الإنسان أعقد آلة في الكون، آلة معقَّدة تعقيدَ إعجاز لا تعقيدَ عجز)

[د.راتب النابلسي]

 

وكمحاولة لفهم الذات البشرية رأيتها تتمثل في (أنا) تشكِّل نواةً تتوسط خماسية مكونة من: (الجسد، والروح، والقلب، والعقل، والنفس)، هذه الأشياء الستة هي أنت!

 

 

حقيقة.. إن هذا التكوين يشكِّل تحدياً لكلِّ بشريِّ في تحقيق التوازن بين هذه الخمسة؛ وذلك بإعطاء كلٍّ منها حقَّه وتمكينه من دروه، ويبقى التوازن هو مسؤولية الأنا، فهي من تقرر، هي من يمنح الأولوية والصلاحيات لهذه المفردات، ويوزع الأدوار بشكل متطرف أو متوازن، مع صلاحية التدخل لترتيب الأولويات، وتقدير الاحتياجات، ومرونة الحركة في المواقف الاستثنائية.

إن قبول "الأنا" لفريقها الذي يشكِّل مجموعة الموارد المتاحة لها، أي: قبولها للصفة الجسدية، والتركيبة النفسية، والطبيعة العقلية، والتقلبات القلبية، والحالة الروحية، هو ما يمنحها الأرضية للانطلاق في تطوير ذاتها وتحسينها ضمن الإمكانات المتاحة، وإلا اقتصر دور "الأنا" على التسخُّط من مواردها كمدير لا يعرف من الإدارة إلا الصراخ في وجه فريق العمل!

 

ولأن "الأنا" مَلَكية الرتبة كان لا بد من قائد يتصدر هذه الخماسية وبموافقة "الأنا"، هذا القائد فيك هو الذي يحدِّد من أنت!

 

(يمكنك الآن أن تتفكر في ذاتك: من هو القائد فيك؟)

 

فإن كان الجسد قائداً.. صنَع لنا إنساناً مادياً بيولوجياً شهواتياً، ورأيت ممارساته تصب في هذا الوادي الجسدي السحيق، فرأيت الجسد كديكتاتور عاقّ؛ كمَّ أفواه وزرائه الأربعة، حتى سطى على مُلك "الأنا"!

هذا الجسد البسيط الذي يتكون من مواد بسيطة([1])، ليس "سكة العطل" كما يقال، بل هو طينة خلقها الله بيده، وصوره فأحسن صورته، فقد (كان آدم جسداً ملقى على الأرض تمر به الملائكة والشياطين وتحاول استكشافه.. تحوّل التمثال الطيني بنفخ الروح فيه إلى عظم ولحم وأوردة وخلايا، ثم تحوّل إلى إنسان حيّ) [د.سلمان العودة].

 

ثم سوَّاه فعدَله، {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، ومن معنى التسوية أن يسوي الله بين أعضاء الإنسان، أو يسوي بين مكوِّناته ويفعِّلها، (قال ذو النون: سوَّاك: أي سخَّر لك المكونات أجمع، وما جعلك مسخَّراً لشيء منها، ثم أنطقَ لسانَك بالذكر، وقلبَك بالعقل، وروحَك بالمعرفة، وسِرَّك بالإيمان، وشرَّفك بالأمر والنهي، وفضَّلك على كثير ممن خلق تفضيلاً)([2]).

{فَعَدَلَكَ} أي: جعلك سوياً معتدل القامة منتصبها، في أحسن الهيئات والأشكال([3])، فالاعتدال في الجسد والاستقامة في القوام يمنح "الأنا" مسحة من الكرامة والعزة والعنفوان، فيكون الجسد قواماً لكيان شامخ عزيز نبيل، وهذا أحد معاني قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، والدراسات النفسية اليوم تشير إلى أن الحالة الجسدية لها تأثير على النفس بشكل ملحوظ.

 

(إننا مصنوعون من الذرات و النجوم، وإن مادتنا و شكلنا شُكِّلا بواسطة الكون العظيم والقديم، والذي نُعَد جزءاً منه، والكون بحد ذاته موجود في داخلنا.. نحن غبار نجمي في أرفع حالاته)

[الفلكيّ نيل تايسون]

 

هذه الإجراءات على الجسد، بدءاً من خلقه من الطين، ثم التسوية، ثم التعديل، إلى أن يصير {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] تكريمٌ لهذا الجسد ورفع لمكانة صاحبه، فهو المؤتمَن عليه، المأمور بصيانته، المسؤول عنه «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن: عمره فيمَ أفناه، وعن علمه فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» [الترمذي].

 

(جسدك.. حصانك إلى الآخرة، إن أكرمتَه أوصلَك، وإلا قطعَك في الطريق)

[الشيخ أحمد كفتارو]

 

 لكن الجسد مع هذه المكانة.. له حدُّه الذي لا يجوز له تجاوزه، فهو جسد يحوي عورة، وينطلق من الضعف ويعود إليه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54]، فيعتريه الوهن والألم، (إن أخطأه سهمُ المنيَّة قيَّده الهرم) [معاوية بن أبي سفيان].

واليوم.. تعتني الحضارة المادية بالجسد، بترفيهه وراحته، باحترام كسَله واختصار حركته ورفع سوية بيئته، لكن هذه الحضارة نفسها تبتكر الآلات الرياضية التي تحرك هذا الجسد لتستفرغ ذلك الجهد الموفَّر في وسائل الترف والراحة!

 

وإن كانت النفس قائداً.. صنعَت لنا إنساناً على شاكلتها، يغرق في طباعها ويضعف عن كبح جماحها، و{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، أمَّارة بالكبر، بالزهو، بالكذب، بالخيانة، بالحسد، بالفحش...

النفس تهوى وتشتهي، و(كل ما تهواه فإنه لا يجر إلى خير؛ لأن النار حُفَّت بالشهوات، والشرع كلُّه مبنيٌّ على ما يخالف الطبع وما تهوى الأنفس)([4]).

إن معظم السلوكيات البشرية تتدخل فيها هذه المكونات الستة للإنسان بشكل مباشر، ولكن بنسَب متفاوتة، وتبقى الشهوات الجنسية أو المادية هي الفخ الأكبر للإنسان في الحياة، ومعظم من سقط في هذه الحياة سقط من قبيل هذه الفتنة التي تشرف عليها النفس ويباشرها الجسد، بتدخل العاطفة حيناً، عندما تخبو الروح ويُغطّى العقل.

لذلك.. فالنفس لا تصلح للقيادة، بل دورها الطبيعي أن تُقاد وتُساس وتُجاهَد، وتُزكَّى مما يلقيه الشيطان فيها، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].

 

أما القلب.. وبالطبع لا أقصد هنا تلك العضلة التي تضخ كل يوم أكثـر من (6000) لتر من الدم، فهي جزء من الجسد، لكني أقصد ذلك الوعاء الذي يحتوي على الحب والكره، الحنين والنفور، الإلفة والبغض... ويشكِّل الجانب العاطفي في الإنسان.

 

فإن كان القلب قائداً.. صنع لنا إنساناً عاطفياً انفعالياً، لا تخضع تصرفاته للمنطق، ولا يمر سلوكه بميزان العقل، يعتمد ردات الفعل، ويتخبط بتقلبات القلب في عمى العاطفة، حتى يصير كما قال الشاعر:

أنا عبد سوء كلما هبَّ الهوى

سلمتُ نفسي للنداء الآتي

 

كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: «لا ومقلب القلوب» [البخاري]، وكان يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرفَ القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك» [مسلم].

هذا التموُّج الذي لا يكاد ينفك عن القلب يقصيه عن أحقِّيَّة القيادة لابن آدم.

 

وإن كان العقل قائداً.. فهو شيء حسَن، ومن أعمَل عقلَه سَلِم أمرُه، لكن بشرط أن يعمل تحت مظلَّة الشرع، فالمعتزلة مثلاً أعطوه القيادة المطلَقة، وجعلوا الحسَن ما حسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحه، فخالفوا الشريعة في عدد من المواطن.

هذا وإن العقل يقصر بمجرَّده عن الإحاطة بفهم الحياة، كفهم حقيقة الروح ونشأة الكون وسر حركته، وكذا الغيبيات التي نؤمن بها - كمسلمين -، وكثير من المفردات والأشياء غير خاضعة للتفسير العقلي.

 

(الكون ليس ملزماً أن يكون منطقياً بالنسبة لك!)

[نيل تايسون]

 

وأنقل هنا مثالاً عن العقل سمعتُه من شيخنا النابلسي حفظه الله([5])؛ إذ شبَّهه بميزان إلكتروني دقيق، مصمَّم لتوزَن به القطع التي عادة ما توزَن بالغرامات كالقطع الذهبية، هذا الميزان يكشف الوزن بأدقِّ تفاصيله، لكن صاحبَه ومن إعجابه بدقته أراد أن يزنَ به سيارته، فوضع الميزان تحت عجلةٍ من عجلاتها فأفسَدَه، هذه النتيجة طبيعية لاستعمال الميزان في غير ما هو مصنوع له، وهكذا هو العقل، خلقه الله عزَّ وجلَّ لمهمَّة معينة، وهي التفكّر في الكون للتعرُّف على الخالق، فإذا ما استُعمل في ما هو مخصَّص له أفلح صاحبه وأفاد، أمّا إن أقحَم عقله لمعرفة ذات الله سبحانه أو الأمور التي أخفاها الله عن العقل، فالعقل لا يستطيع الوصول إلى نتيجة من المستحيلات التي يعجز عن إدراكها، ومهما تعمَّق فيها ازدادت التساؤلات والمشكلات؛ لأنّ العقل ليس مجهّزاً لهذه المهمّة، قال ابن عباس: (تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله)([6]).

 

أما الروح.. فهي (الطاقة الخفية التي بها قوام الجسد، وكأن الجسد بيت والروح تيار كهربائي يضيئ جوانبه!)([7])، نعم، هي الجانب المشرق في المخلوق، ولذلك نسبَها الله لذاته فقال: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، فعجز العقل عن الإحاطة بها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]

الروح.. هي الجوهر القديم الذي اتَّصف بالبقاء([8])، هي سر الحياة، هي الجوهر السماوي النقي الذي نفثه الله تعالى في الطين فصار شيئاً مذكوراً..

الروح.. هي الجانب السماوي من كلِّ بشر، لذلك فهي دائمة الحنين لوطنها، متواصلة الهمِّ في غربتها، تتقوت على طاعة الله، وتستأنس بقربه، في حين أنها عند الغفلة والجفاء والمعاصي تنزوي في سجنها الجسدي لكأنها تقرأ: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74]، فينعكس ذلك على النفس والبدن والعقل والعاطفة، فالعلاقة التي تربط ضعف المادة الدينية مع كثرة المشكلات النفسية -(كالقلق والتوتر والاكتئاب...)-، والسلوكية -(كالشره في الشراء وإيثار المصلحة الشخصية وسرعة الانفعال ...)- أوضح من أن نشرحها هنا! 

 

(في داخلنا صراع عميق بين رغبات الجسد وتوثُّبات الروح، وفي كل مرة تنتصر فيها الشهوة ينكسر فيها شموخ الروح ونشعر معه بالتضاؤل)

[أ.د. عبد الكريم بكار]

 

في هرم ماسلو يَظهر في تدرُّج الحاجات عنده أنه عدَّ الحاجات الجسدية قاعدة الهرم، وخلط الاحتياجات النفسية والعاطفية في طريقه إلى ذروة الهرم، ثم عدَّ الحاجات العقلية ذروة الهرم ورأسه، في حين أن الاحتياج الروحي استبعِد تماماً في ذلك الهرم! والحقّ أن يكون ذروة سنامه، وما احتياج الروح إلا للقيَم والمُثُل وحياة الضمير!

 

فإن كانت الروح قائداً..

ذلَّ لها جسدها فطارت همَّته تحلِّق بخدمتها بدل أن يتمرَّد عليها برغباته وشهواته ويكون سجنها في الدنيا..

وتهذبت بها النفس وتزكَّت وانجذبت إليها بدل أن تنجذب إلى الجسد فتوبقه بما يلا يليق به..

وتأدَّب العقل عند حدوده، وتحفَّز لفهم دوره ومعرفة مآل صاحبه..

وتوجَّه القلب وتوازنت العواطف في إطار (الحب في الله والبغض في الله) بدل أن تطيش وتتشظى..

عندها ينسجم الكلُّ في وحدة متناغمة، فيبلغ المرء رتبةً تفوق رتبة الملائكة، يدرك بها سعادة الدنيا والآخرة.

ختاماً.. (الأنا، والجسد، والروح، والقلب، والعقل، والنفس)، هذه الأشياء الستة هي أنت! تُرى.. من هو القائد فيك؟ وهل هو الأولى بالقيادة حقاً؟!

 


([1]) نسبة 96% من جسد الإنسان مكون من الأوكسجين، والهيدروجين، والنتروجين، والكربون، والبقية عناصر متفرقة، ويشكل الأكسجين والهيدروجين 75% من الجسم، 60% منها كتلة مائية. المصدر هنا  

([2])  تفسير الرازي [31/ 75]

([3])  تفسير ابن كثير [8/ 342].

([4])  نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (21/ 244)

([6]) ذَكَرَه ابن حجر في فتح الباري [13/383]، وقال: (موقوف وسنده جيد).

([7])  د.سلمان العودة - مقال (جسد)

([8]) وفي بقائها اختلاف، وَلعل الصَّوَاب - كما قال ابن القيم - (أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب) [الروح لابن القيم: ص:34].