الدماغ البشري أعقد آلة في الكون، وهو ينسجم معه في قوانينه العامة (السببية، والغائية، ومنع التعارض)، كذلك يشترك معه في التنظيم الدقيق، والسَّعة وترامي الأطراف، والتأثُّر والتأثير بكل ما أحاط به وشاكله.

 

بين الوعي واللاوعي، والذاكرة المؤقتة والذاكرة الدائمة، ورحلة استيعاب المعلومات وتشفيرها أو ترميزها وتخزينها.. يضيع عدد من أبنائنا؛ إذ تدخل المعلومة مع مجموعة فوضوية من البيانات المرافقة، لا تأخذ حقها من التركيز الواعي، ولا الترتيب المنهجي، ثم يضعها الدماغ في بقعة ما من الفضاء الداخلي، ليؤثر ذلك بعدُ على استرجاعها وقت الحاجة إليها.

 

في هذا المقال وما يليه سأضع بين يديك عشرين طريقة - أو طريقاً - لإدخال المعلومة إلى الدماغ بشكل واعٍ، منظَّم، وممتع، يمَكِّن الدارسين من استعادتها وقت الحاجة إليها بعدَّة فرعيات وخيوط تربطها مع غبار نجمي كثيف من الأفكار المحيطة في عالم الأفكار.

 

1) الاهتمام أساس الحفظ:

 

لن يرسو في عقلك إلا ما يهمّه! أو تُقنعه بأنه يهمُّه، لذلك وجّه اهتمامك جيداً إلى الشيء الذي تريد حفظه، استجمع إرادتك ونيتك لحفظه، وتوقَّع من ورائه الفائدة والنجاح، وأعطه كلَّك؛ لأن (العلم إن لم تعطِه كُلَّك لم يعطِك بعضَه) [الغزالي].

 

2) ذاكرة الحواس:

 

يقبع دماغك الفريد في حجرة عظميَّة مظلمة، لا يدرك ما حوله إلا من خلال الحواس، فهي طرُقُه إلى العالم الخارجي، منها تدخل المعلومة لتستقرَّ فيه؛ وتكون قاعدة يبني عليها معلومات منطقية جديدة نتيجة لمجموعة من المحاكمات العقلية والنشاطات الذهنية يجريها بعد ذلك.

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]

فإن أردتَ أن تحفظ شيئاً فوجِّه حواسك جيداً إليه، تأمَّل شكله وتخيَّل ملامحه وأجزاءه وحركاته، واسمع صوته وتحسَّس رائحته وطعمَه وانتبه إلى اسمه، حاول أن تقف عند كل ما يتَّصل به من الأمور التي تميِّزه عن غيره، وتذكَّر أن الصور الذهنية تغدو أكثر قابليَّة للتذكر عندما تقترن بالصور الحسيَّة والسمعية والبصرية معاً، فحاول أن تُعمِل أكثر من حاسَّة معاً لتدخِل المعلومة إلى رأسك من عدَّة مداخل يعزِّز بعضُها بعضاً.

 

3) التذكر بالكتابة

العلم صَيد والكتابة قيدُه *** قيِّد صيودَك بالحبال الواثقة

فمن الحماقة أن تصيد غزالة *** تتركها بين الخلائق طالقة

[الإمام الشافعي]

 

يقال: (قيِّدوا العلم بالكتاب).

أبو هريرة - رضي الله عنه - من أكثر الصحابة الكرام رواية للحديث، ومع ذلك ندم على شيء فاته من الحديث لأنه لم يكتبه، فقال: (ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من ابن عمرو، فإنه كان يكتب، ولا أكتب) [البخاري]، وفي رواية: (فإنه كان يكتب بيده ويَعِي بقلبه، وكنت أَعِي ولا أكتُب).

 

قد يهمك: [المرافقة المنزلية ودورها في النجاح المدرسي

 

4) التذكر بالرسم

 

الرسم يحفّز الدماغ على استكمال عملية التخيُّل للمعلومة الجديدة والأفكار المجرَّدة التي تُعرَض عليه، ويعطيه فرصة لإمعان النظر في التفاصيل، ومرافقة التفكير والفهم لنقاط عميقة في الدماغ، ومن هنا فإنه يؤثر على الذاكرة بشكل واضح، ويساعد الإنسان في التذكر.

ولئن كانت الكتابة جيدة في ترسيخ المعلومة وتحسين القدرة على استرجاعها، فإن الرسم - غالباً - أفضل من الكتابة في هذه المهمَّة.

هرم ماسلو، يختصر مشواراً من الشرح لدقائق وتفاصيل وترتيب أولويات في علم النفس.

 

 

أذكر أني ساعدت عدداً من الأطفال في حفظ سورة التكوير، والتي تبدأ آياتها بكلمة متكررة (إذا - وإذا)، لكن رسم رموز وصوَر للآيات؛ يتم عرضها على السبورة بالتوالي في لوحة كاملة، يرسخ الآيات وينظِّمها في الدماغ.

 

5) التذكر بالتمييز

 

تظليل المعلومات المهمَّة والكلمات المفتاحية بقلم التظليل أو وضع خط تحتها أو كتابتها أصلاً بلون مغاير أو بنمط (غامق -Bold )، كل ذلك يبرزها ويميزها، وهو أمر جيد، لكنه غير كافٍ، فهو يساعد بشكل مرحلي لتحديد المهم وتيسير المراجعة، لكنه لا يكفي لحفظ المعلومة، بل قد يَخدَع الدماغ أحياناً؛ فبعض الطلبة يستخدم هذه الطريقة عند قراءة الكتب المدرسية، فيحدد الأجزاء المهمَّة أو يظلل الأفكار الرئيسية في أثناء القراءة، ثم يخدعه الوهم بأنه حَفِظَ المادة أو فهِمَها أو وضَع أساساً يَختصِر عليه الوقت قُبيل الامتحان.

في الواقع سينسى أغلب ما حدَّده بذلك القلم فيما بعد، إلا إذا رجع إليه وقرأه مجدَّداً، واستدرك عليه، وعززه وثبَّته بأساليب أخرى [نتحدث عنها لاحقاً]، ثمّ لخَّصه وأضاف عليه بطريقته، ورتَّبه بأسلوبه.

 

قد يهمك: [آليات التفوق

 

6) التذكر بالتلوين

 

التلوين: طريقة مستعملة بكثرة في تحفيظ الصغار الأرقام والأشكال والأشياء والحساب والآيات... حتى الكبار، يرسمون الرموز والأشكال والخرائط ويلونونها.. ولكن على قلَّة.

هناك نسخ من القرآن الكريم أضافت التلوين إلى الآيات لمساعدة الحفَّاظ وترتيب المحفوظ.

يمكن للتلوين أن يجمع بين المتعة والتعليم، وأن يفسح الوقت للدماغ في استيعاب المعلومة وهضمها، ومع تقدُّم المراحل التعليمية يقلُّ أثره واحتياجه.

 

7) التذكر بالقصة

 

بعض المعلومات أو التعدادات أو المحفوظات يمكن أن تربط بينها باختراع قصة متخيَّلة، تساعد ذهنك على استذكار ترتيب المعلومات، وصناعة صورة عقلية جيدة للمعلومات والحقائق، لا تحاول صياغتها بطريقة درامية منطقية ولا كموضوع واقعي وجدِّيّ، المهم أنها قصَّة؛ حتى لو كانت مضحكة أو فيها من الطرائف والغرائب.. لا بأس، بل لعل هذا أدعى للحفظ.

 

8) التذكر بالصورة

 

في المنهاج الدراسي توضَع العديد من الصور المرفقة بالمادة العلمية، تساعد الدماغ على عملية التخيل الجيد للأحداث والأشياء، وتعطيه قاعدة يبني على أساسها بقية المعلومات.

حاول أن تبحث عن صور متعلقة بالموضوع الذي تحفظه، والأشخاص الذين تدرُس أدبَهم أو سيرتهم أو مواقفهم أو فرضياتهم العلمية.

 

قد يهمك: [أنا وابني والامتحان]

 

9) التذكر بالربط:

 

ولعل هذا من أهم ما يعين الدماغ على التذكُّر، ويكون من خلال:

- ربط الجديد بالقديم: حاول أن تربط كل جديد تحفظه بمعلوماتك السابقة أو بالأشياء والأفكار والحوادث التي تشبهه أو تعاكسه أو تقترن به أو تواكبه أو تتصل به اتصالاً وثيقاً.

 

(كلما ارتبطت الحقائق في الذهن بعضها ببعض كلما استطاع العقل أن يسيطر عليها وأن يذكرها متى شاء)

[الفليسوف وليم جيمس]

 

- ربط المواد ببعضها: قد تجد معلومة في مادة التربية المدنية موجودة في مادة التاريخ مثلاً، وقد تقابل مسألة في آخر الكتاب تتعلق أو ترتبط بمسألة في فصوله الأولى، فأكمل الفكرة عبر ربط المعلومات وتعزيزها ببعضها.

- ربط "سؤال وجواب": ممكن أن يكون الربط بطريقة منطقية، مثل وضع إضافات داخل النص تربط أجزاءه: (لماذا؟ ولذلك؟ والنتيجة، أين؟ متى؟...)، مثل:

 

 

10) التذكر بالإضافة

 

من طرق الحفظ الجيدة أن تبحث عن معلومات إضافية حول الموضوع الذي تريد حفظه، مثلاً: أردتَ أن تحفظ اسم شخص ما، حاول أن تحصل على معلومات أكثر عنه، ميلاده وحياته، تخصصه وإنجازاته، قراءة صفحته على ويكيبيديا أو زيارة صفحته على فيسبوك.. كل ذلك يضيف معلومات إضافية تجعل من اسمه معلومة شبه بدهية.

منذ أيام كنا في زيارة مريض بعد صلاة الجمعة، ذُكِر اسم أحد العلماء، ودار الحديث عنه دقائق، لفتني أن أحد الأساتذة الجالسين بدأ - ونحن نتحدث - يبحث عنه على Google ويقرأ عن حياته على ويكيبيديا.. بالمناسبة: هذا الأستاذ هو أكثر من أعرف في حياتي استحضاراً لأسماء الكتب والرجال، لقد أسفرَ لي سلوكه هذا عن سرِّ قوَّة حافظته.

أيُّ معلومة جديدة حاول أن تثبّتها بالإضافة، بلد ما يمرُّ اسمه معك في مادة الجغرافية، شخصية ما تمر معك في التاريخ، أديب له قصيدة في كتاب اللغة العربية، مذهب نفسي، تيار فلسفي... عزز المعلومة المراد حفظها بإضافات تثبتها في دماغك، لن يأخذ الموضوع وقتاً طويلاً، بل ستجد أن ذلك أوفر وقتاً من محاولة الاستظهار بالتكرار والإلحاح على الدماغ.

 

قد يهمك: [على طريق البكالوريا

 

هذه عشرة طرق لإدخال المعلومة إلى الدماغ بشكل واعٍ، منظَّم، وممتع، نتبعها بعشرة طرق أخرى في الجزء الثاني من المقال إن شاء الله تعالى