عند منتصف النهار.. أخذت مضجعي لقيلولتي.. فلاحَ لي أمر سلَب من عينيَّ النوم.. واستبدلَ به الشوق والدمع والحنين..

شوق إلى حبيبٍ متفضِّل رآه القلب ولم ترَه العين.. ودمع لتقصيرٍ معه.. وحنين لموطن أُخرِجنا منه.. لنهبط دار التواء، ما كانت يوماً موطناً لنا، ولقينا من سفَرنا فيها نصَباً..

سألت نفسي: ماذا لو انتهت إقامتي في دار الدنيا.. الآن.. وفي هذه الساعة.. غادرت الروح سجناً طال مكثها فيه ونالها الأذى منه.. ورجعَت من فورها إلى باريها... ثم ساقتني الأملاك الكرام حتى انتهيتُ إلى عرش الرحمن.. فأقبلَ عليَّ الجليل بعظيم هيبته.. ونظر إلى عبدٍ غرَّه ما غرَّه بربٍّ كريم.. ثم استمع لقولي إن كان عندي ما أقول!

ترى.. ماذا سأقول له في هذا الموقف.. ما أول ما سأتفوَّه به بين يديه؟!

أظن لو أني وقفت بين يديه، وأذن لي بابتداء الحديث معه، سأقول كلمات ثلاث..

الكلمة الأولى: (حمد وشكر)

سأبتدئ حديثي بشكره.. سأشكره على نعمٍ حفَّني بها، وتفضل عليَّ بها..

سأشكره على عطاياه التي كانت تتوالى عليَّ تترى.. نعَم وأفضَال ومِنَن عجزتُ عن عدِّها كما عجزتُ عن شكرها وحمدِها..

سأشكره لأنه أذن لي أن أتعرَّف عليه.. وهداني إلى دينه، واستخدمَني في الدعوة إليه...  فشرفني بذلك بعد أن لم أكن شيئاً مذكوراً..

سأشكره على لحظة عشتها معه.. آااااااه ما أجمل تلك اللحظة!

سأقول له إني لم أذق في الدنيا سعادة تداني سعادة قربه، ولا لذَّةً تقارب لذة مناجاته...

سأشكره على حسن تعهُّده لأمري بجميل برِّه، سأشكره أنه لم يتركني لنفسي ولم يكلني إلى غيره..!

الكلمة الثانية: (اعتذار)

بعد ذلك.. إن أذن لي أن أسترسل بشكره وأعطاني للمزيد فسحة فلا شك أني سأعتذر إليه..

سأعتذر منه أني رجعتُ إليه بغير ما أراد لي أن أرجع..!

سأعتذر عن ساعةٍ غفلتُ بها عنه..

سأعتذر عن همي بما ضمِنَ لي، وانشغالي عمَّا أمرني به، وخوضي فيما لم يرضَهُ لي..

سأعتذر إليه عن نعمةٍ لم أعرفها، وسعادةٍ هيَّأ لي أسبابها فأضعتُها..

سأعتذر.. عن جهلي.. عن قصوري في فهم قوانينه التي كانت أوضح من عين الشمس...

سأعتذر.. عن ساعةٍ نظر فيها إليَّ فرآني شارداً عنه.. ، عن لحظة وَقَع فيها نظره عليَّ، فكنت على غير ما أراد..

سأعتذر.. عن خيرٍ بصَّرني به فعجزَتْ عن بلوغه همَّتي..

سأعتذر وأعتذر وأعتذر..

سأمرِّغ تحت عرشه خدَّيَّ..، وأسقي وجنتيَّ بدموع عينيَّ... التي لطالما شحَّت في سجودي بين يديه!

سأتوسل إليه بحبه لي، وإكرامه لي، وعنايته بي، وكل ذلك الذي تعودتُه منه في دنياي.. أن يقبل اعتذاري..

الكلمة الثالثة: (طلب الرضا).

ثم إنْ أذنَ لي أن أكمِل فلا شكَّ أني بعد الشكر والاعتذار سأتجرَّأ على الطلب..

سأطلب رضاه الذي عجزتُ عن بلوغه بعملي.. مع طول مهلتي وإقامتي في دار الفناء..

سأطلب أن يتمِّم فضلَه بتمام الرضا.. هذا الذي كان أقصى ما أريد، وأغلى ما أطلب، وأعلى ما أطمح به وأصبو إليه!

سأطلب رضاه بيديَّ الفارغتين، وصحيفتي المليئة بما لا يرضى.. لكني سأطلب منه الرضا!

سأعترف له أن ما في صحيفتي ما كنت لأتجرأ به عليه.. ولا كنت لأبارزه فيه ولا أواجهه به..، إنما هي ساعة غفلة.. ساعة ضعف.. ساعة خوَر.. غلبتني فيها نفس خبيثة، وافقت رباً حليماً عوَّدني على ستره، فطمعتُ بواسع عفوه، ووعدتُ نفسي وأمَّلتُها بمغفرته، ثم خضتُ مغروراً فيما لا يحب.. وقصَّرت فيما أحب.. ثم تأملت بالاستدراك، ونسيتُ ساعات الحساب..

سأطلب رضاه لعبدٍ ليس أهلاً للرضا.. لكنه عبدٌ طامعٌ به وعجزَ حيلةً عن بلوغهَ!

أرجو ساعتها أن لا يطردني عن جنابه، لأني أطلب ما لا يليق بي...

لكن والله سأطلب.. لأنه عطاء يليق به.. إنه ربي، وأنا أعرفه.. لم يخيبني يوماً.. فلن يخيبني..

هذا إن رأيتُه، وأذن لي أن أتكلم بحضرته..

لكني أخشى أن لا أراه! {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15]

وأخشى أن لا يأذن لي بالحديث إليه والكلام في حضرته: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 108، 109]

أخشى أن يبادرني بعتابه قبل أن أبادره بشكره..

أن يبادرني بحسابه قبل أن أبادره باعتذاري..

أن أرى منه عدلاً يخرسني عن التجرؤ على طلب رضاه..

لكني.. أرجو أن أكون ممن شملهم قوله في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي) [متفق عليه]